الحروب العالمية- دروس من الماضي، تحذير للمستقبل؟

المؤلف: محمد مفتي08.27.2025
الحروب العالمية- دروس من الماضي، تحذير للمستقبل؟

في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما خلفته من ويلات جمة، شهد العالم تحولات جذرية؛ دول بأكملها تلاشت من الوجود، وولدت كيانات سياسية جديدة، فيما تمزقت دول أخرى وقُسمت أراضيها، وضمّت الدول المنتصرة أجزاءً من الدول المهزومة، في عملية إعادة هيكلة شاملة للخارطة العالمية. في ذلك الوقت العصيب، بدا العالم وكأنه لم يستفق بعد من الصدمة العنيفة التي أذهلت معظم سكانه، فالحرب أودت بحياة الملايين، وخلّفت وراءها أعداداً هائلة من الأرامل واليتامى، فضلاً عن تدميرها للاقتصاد العالمي برمته.

لم يكن يخطر ببال أي سياسي، أو حتى أي فرد عادي، في تلك الحقبة الحالكة، إمكانية نشوب حرب عالمية أخرى في المستقبل القريب، فالعالم لم يكن قد تعافى بعد من آثار الحرب العالمية الأولى. ومع ذلك، سرعان ما انزلق العالم المثقل بالجراح في براثن أزمة صحية كارثية، أدت إلى انهيار المنظومة الصحية العالمية، ومهدت لظهور وباء الأنفلونزا الإسبانية الذي انتشر بسرعة مذهلة، مخلفاً هو الآخر مئات الآلاف من الضحايا، في واحدة من أسوأ الكوارث الصحية التي شهدها العالم على مر التاريخ.

وبينما كان العالم يكابد آثار الصدمة، بدأت تلوح في الأفق بوادر أزمة سياسية دولية جديدة في عام 1933، عقب صعود هتلر والنازيين إلى السلطة في ألمانيا. استغل هتلر نتائج الحرب العالمية الأولى، التي اعتبرها مجحفة بحق ألمانيا، في إشعال نار الحماس في نفوس الألمان، وحشدهم لتأييد مطالبه باستعادة حقوق ألمانيا المغتصبة، فبدأ في تعزيز جيشه وشعبه وقواته المسلحة، استعداداً لخوض حرب جديدة، وكأن العالم لم يكتف بعد من إراقة الدماء والدمار الهائل الذي حل بمعظم دول العالم التي شاركت في الحرب العالمية الأولى.

كان غزو ألمانيا لبولندا، بهدف استعادة ممر دانزنج، الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الثانية، وأدى هذا الغزو إلى إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا، رفضاً لغزو دولة لأخرى بهدف تغيير الخارطة السياسية الأوروبية بالقوة. غير أن هذه الحرب، التي بدأت في القارة الأوروبية، سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم في أجزاء أخرى من العالم، وامتدت نيرانها إلى أفريقيا والشرق الأقصى.

مما لا شك فيه أن مجموعة متنوعة من العوامل والأسباب دفعت الدول للانخراط في الحرب العالمية الثانية على الرغم من إرادتها، فالحروب غالباً ما تندلع بسبب أحداث صغيرة، وهذا الأمر يلقي بظلاله على الوضع الراهن في العالم، خاصة مع تصاعد الصراعات في مناطق مختلفة. فالحرب مستعرة الآن بين روسيا وأوكرانيا، ولا تلوح في الأفق أي علامات على التوصل إلى حل قريب لوقفها، وهناك أزمة كامنة تحت الرماد بين الهند وباكستان، الدولتين النوويتين المتجاورتين، والتي يخشى الجميع من اندلاعها في أي لحظة، مما يهدد أمن واستقرار المنطقة، بل والعالم بأسره.

وبالإضافة إلى الأزمات المستمرة في اليمن والسودان وغزة، فإن إشعال منطقة الشرق الأوسط بصراع جديد لا يبدو حلاً منطقياً لتسوية أي خلاف، مهما كان نوعه. ولا يمكننا التقليل من خطورة القصف المستمر الذي تشنه إسرائيل، فقد تخلت إسرائيل عن الالتزام بأهداف محددة في ضرباتها العسكرية، ولم تعد تبالي بحجم الدمار الذي تحدثه في المنطقة، أو بردود فعل قادة وشعوب العالم تجاه أفعالها، فهي تضرب بقوة وبشكل عشوائي، في محاولة منها على ما يبدو لإعادة رسم خارطة المنطقة بما يخدم مصالحها فقط، ومن المؤسف أنها تتلقى الدعم والتشجيع من دول كبرى تقف خلفها وتساندها بطرق مباشرة وغير مباشرة.

في خضم هذه الأحداث المتلاحقة والمتسارعة، يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانت حرب عالمية ثالثة ستندلع قريباً. هذا السؤال يبدو منطقياً ومتوقعاً، ففي الوقت الذي يعتقد فيه قادة العالم والمنطقة أن جميع هذه الصراعات الدائرة تحت السيطرة، وأن نتائجها قد تكون محسومة مسبقاً، يغيب عنهم أن الحربين العالميتين الأولى والثانية لم يكن مخططاً لهما أن تخرجا عن السيطرة وتتسببا في هذا العدد الهائل من القتلى والدمار الشامل. ومع تعقيد الأحداث، تتجه الصراعات نحو المزيد من التوسع والانتشار، فالحرائق الهائلة تبدأ من شرارة صغيرة تبدو وكأنها ستتلاشى من تلقاء نفسها، ولكن النيران غالباً ما تشتعل من التفاصيل الصغيرة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة